الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»
أي يقبل، وقال الراجز: {قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا} اختلف هل صدر منهم هذا اللفظ حقيقة باللسان نطقا، أو يكونوا فعلوا فعلا قام مقام القول فيكون مجازا، كما قال: وهذا احتجاج عليهم في قولهم: {نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا}.قوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} أي حب العجل. والمعنى: جعلت قلوبهم تشربه، وهذا تشبيه ومجاز عبارة عن تمكن أمر العجل في قلوبهم.وفي الحديث: «تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء» الحديث، خرجه مسلم. يقال أشرب قلبه حب كذا، قال زهير: وإنما عبر عن حب العجل بالشرب دون الأكل لان شرب الماء يتغلغل في الأعضاء حتى يصل إلى باطنها، والطعام مجاور لها غير متغلغل فيها. وقد زاد على هذا المعنى أحد التابعين فقال في زوجته عثمة، وكان عتب عليها في بعض الامر فطلقها وكان محبا لها: وقال السدي وابن جريج: إن موسى عليه السلام برد العجل وذراه في الماء، وقال لبني إسرائيل: اشربوا من ذلك الماء، فشرب جميعهم، فمن كان يحب العجل خرجت برادة الذهب على شفتيه. وروي أنه ما شربه أحد إلا جن، حكاه القشيري.قلت: أما تذريته في البحر فقد دل عليه قوله تعالى: {ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً} وأما شرب الماء وظهور البرادة على الشفاه فيرده قوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ}. والله تعالى أعلم.قوله تعالى: {قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ} أي إيمانكم الذي زعمتم في قولكم: {نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا}.وقيل: إن هذا الكلام خطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أمر أن يوبخهم، أي قل لهم يا محمد: بئس هذه الأشياء التي فعلتم وأمركم بها إيمانكم. وقد مضى الكلام في: {بِئْسَما} والحمد لله وحده.
والضمير في: {أَحَدُهُمْ} يعود في هذا القول على اليهود.وقيل: إن الكلام تم في: {حَياةٍ} ثم استؤنف الاخبار عن طائفة من المشركين. قيل: هم المجوس، وذلك بين في أدعياتهم للعاطس بلغاتهم بما معناه عش ألف سنة. وخص الألف بالذكر لأنها نهاية العقد في الحساب. وذهب الحسن إلى أن {الَّذِينَ أَشْرَكُوا} مشركو العرب، خصوا بذلك لأنهم لا يؤمنون بالبعث، فهم يتمنون طول العمر. واصل سنة سنهة.وقيل: سنوة.وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى ولتجدنهم وطائفة من الذين أشركوا أحرص الناس على حياة.قوله تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} أصل {يود} يودد، أدغمت لئلا يجمع بين حرفين من جنس واحد متحركين، وقلبت حركة الدال على الواو، ليدل ذلك على أنه يفعل.وحكى الكسائي: وددت، فيجوز على هذا يود بكسر الواو. ومعنى يود: يتمنى.قوله تعالى: {وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ} اختلف النحاة في هو، فقيل: هو ضمير الأحد المتقدم، التقدير ما أحدهم بمزحزحه، وخبر الابتداء في المجرور. {أَنْ يُعَمَّرَ} فاعل بمزحزح وقالت فرقة: هو ضمير التعمير، والتقدير وما التعمير بمزحزحه، والخبر في المجرور، {أَنْ يُعَمَّرَ} بدل من التعمير على هذا القول.وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت: هو عماد.قلت: وفيه بعد، فإن حق العماد أن يكون بين شيئين متلازمين، مثل قوله: {إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ}، وقوله: {وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} ونحو ذلك.وقيل: {ما} عاملة حجازية، و{هُوَ} اسمها، والخبر في: {بِمُزَحْزِحِهِ}. وقالت طائفة: {هُوَ} ضمير الامر والشأن. ابن عطية: وفيه بعد، فإن المحفوظ عن النحاة أن يفسر بجملة سالمة من حرف جر. وقوله: {بِمُزَحْزِحِهِ} الزحزحة: الابعاد والتنحية، يقال: زحزحته أي باعدته فتزحزح أي تنحى وتباعد، يكون لازما ومتعديا، قال الشاعر في المتعدي: وأنشده ذو الرمة: وقال آخر في اللازم: وروى النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من صام يوما في سبيل الله زحزح الله وجهه عن النار سبعين خريفا».قوله تعالى: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ} أي بما يعمل هؤلاء الذين يود أحدهم أن يعمر ألف سنة. ومن قرأ بالتاء فالتقدير عنده. قل لهم يا محمد الله بصير بما تعملون.وقال العلماء: وصف الله عز وجل نفسه بأنه بصير على معنى أنه عالم بخفيات الأمور. والبصير في كلام العرب: العالم بالشيء الخبير به، ومنه قولهم: فلان بصير بالطب، وبصير بالفقه، وبصير بملاقاة الرجال، قال: قال الخطابي: البصير العالم، والبصير المبصر.وقيل: وصف تعالى نفسه بأنه بصير على معنى جاعل الأشياء المبصرة ذوات إبصار، أي مدركة للمبصرات بما خلق لها من الآلة المدركة والقوة، فالله بصير بعباده، أي جاعل عباده مبصرين.
الثانية: جبريل بفتح الجيم وهي قراءة الحسن وابن كثير، وروي عن ابن كثير أنه قال: رأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في النوم وهو يقرأ جبريل وميكائيل فلا أزال أقرؤهما أبدا كذلك.الثالثة: جبرئيل بياء بعد الهمزة، مثال جبرعيل، كما قرأ أهل الكوفة، وأنشدوا: وهي لغة تميم وقيس.الرابعة: جبرئل على وزن جبرعل مقصور، وهي قراءة أبي بكر عن عاصم.الخامسة: مثلها، وهي قراءة يحيى بن يعمر، إلا أنه شدد اللام.السادسة: جبرائل بألف بعد الراء ثم همزة وبها قرأ عكرمة.السابعة: مثلها، إلا أن بعد الهمزة ياء.الثامنة: جبرئيل بياءين بغير همزة وبها قرأ الأعمش ويحيى بن يعمر أيضا.التاسعة: جبرئين بفتح الجيم مع همزة مكسورة بعدها ياء ونون.العاشرة: جبرين بكسر الجيم وتسكين الياء بنون من غير همزة وهي لغة بني أسد. قال الطبري: ولم يقرأ بها. قال النحاس- وذكر قراءة ابن كثير-: لا يعرف في كلام العرب فعليل، وفيه فعليل، نحو دهليز وقطمير وبرطيل، وليس ينكر أن يكون في كلام العجم ما ليس له نظير في كلام العرب، وليس ينكر أن يكثر تغيره، كما قالوا: إبراهيم وإبرهم وإبراهم وإبراهام.قال غيره: جبريل اسم أعجمي عربته العرب، فلها فيه هذه اللغات ولذلك لم ينصرف.قلت: قد تقدم في أول الكتاب أن الصحيح في هذه الألفاظ عربية نزل بها جبريل بلسان عربي مبين. قال النحاس: ويجمع جبريل على التكسير جباريل. وأما اللغات التي في ميكائيل فست: الأولى: ميكائيل، قراءة نافع. وميكائيل بياء بعد الهمزة قراءة حمزة. مِيكالَ، لغة أهل الحجاز، وهي قراءة أبي عمرو وحفص عن عاصم. وروي عن ابن كثير الثلاثة أوجه، قال كعب بن مالك: وقال آخر: الرابعة ميكئيل، مثل ميكعيل، وهي قراءة ابن محيصن.الخامسة: ميكاييل بياءين وهي قراءة الأعمش باختلاف عنه.السادسة: ميكاءل، كما يقال إسراءل بهمزة مفتوحة، وهو اسم أعجمي فلذلك لم ينصرف.وذكر ابن عباس أن جبر وميكا وإسراف هي كلها بالأعجمية بمعنى: عبد ومملوك. وائل: اسم الله تعالى، ومنه قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين سمع سجع مسيلمة: هذا كلام لم يخرج من إل، وفي التنزيل: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} في أحد التأويلين، وسيأتي. قال المارودي: إن جبريل وميكائيل اسمان، أحدهما عبد الله، والآخر عبيد الله، لأن إيل هو الله تعالى، وجبر هو عبد، وميكا هو عبيد، فكأن جبريل عبد الله، وميكائيل عبيد الله، هذا قول ابن عباس، وليس له في المفسرين مخالف.قلت: وزاد بعض المفسرين: وإسرافيل عبد الرحمن. قال النحاس: ومن تأول الحديث جبر عبد، وإل الله وجب عليه أن يقول: هذا جبرئل ورأيت جبرئل ومررت بجبريل، وهذا لا يقال، فوجب أن يكون معنى الحديث أنه مسمى بهذا. قال غيره: ولو كان كما قالوا لكان مصروفا، فترك الصرف يدل على أنه اسم واحد مفرد ليس بمضاف.وروى عبد الغني الحافظ من حديث أفلت بن خليفة- وهو فليت العامري وهو أبو حسان- عن جسرة بنت دجاجة عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللهم رب جبريل وميكائل وإسرافيل أعوذ بك من حر النار وعذاب القبر».
|